وشهد شاهد من أهلها

لقد تابعت، كما تابع المغاربة وغيرهم نشرة الأخبار المسائية ليوم الجمعة 26 غشت، على القناة الأولى للتلفزة المغربية. وكم كان انزعاجي كبيراً، وخيبة أملي قاسية، وأنا أشاهد رئيس الجمهورية التونسية السيد قيس سعيد، وهو يستقبل، استقبالا رسميا لافتا للنظر، زعيم مرتزقة البوليزاريو، وكأنه واحد من رؤساء الدول الإفريقية المعترف بهم دوليا، والمدعوين للمشاركة في أشغال الدورة الثامنة لمنظمة الإيكاد (Icade) التي ترعاها دولة اليابان، وتتوخي من خلالها الإسهام في تنمية القارة الإفريقية. هذا، وقد ثمنت الرد السريع والفوري لوزارة الخارجية والتعاون والمغاربة المقيمين بالخارج، حيث اتخدت مجموعة من التدابير، احتجاجا على تهور الرئيس قيس سعيد، وتصرفه الفظيع نحو المغرب والمغاربة وقضيتهم الوطنية الأولى، والمتمثلة في استرجاع سيادتـهم على أقاليمهم الجنوبية. والعجيب في الأمر، بل الأدهى فيه، أن هذا التصرف غير اللائق، والموقف العدائي قد جاءا على يد دولة شقيقة وصديقة، كنا نحسن الظن بـها حتى الأمس القريب، ونـخبها السياسية والثقافية على بينة من الواقع التاريخي لبلدان المغرب العربي، ومِــمَّـا تعرضت إليه خريطة المنطقة المغاربية من تحريف وتزوير، أيام خضوعها للهيمنة الاستعمارية الفرنسية من جهة، وبالصلات والروابط السياسية، والاجتماعية، والثقافية التي تربط الشعبين الشقيقين المغربي والتونسي وتضرب جذورها في عمق التاريخ من جهة أخرى. وهكذا، وبين عشية وضحاها، يـأتـي السيد قيس سعيد، ويعلن تنكره لهذا الموروث التاريخي الثمين، ضاربا بعــــرض الـحـــــــائــــط كـــــــل الأعــــراف والتقاليـــــد، انسياقـــــــا وراء مـخططـــــات وأطمـــاع حــكـــــام قصــر الـمُـرادية بالجزائر والذين لاهم لهم، في الحقيقة، سوى ضمان موطىء قدم على الساحل الأطلسي، وفـــــــرض هيمنتهــــم على كافـــــة دول المنطقة، وكأنــــــي بالسيد الرئيس قيس سعيد يجري وراء سراب لن يجني من ورائه سوى الفشل وخيبة الأمل.
والمؤسف في الأمر، كذلك، أن موقف الرئيس التونسي المتهور والعدائي ضد المغرب، والاستقبال الافتزازي الذي خص به زعيم مرتزقة البوليزاريو في مطار قرطاج، وكذا إكثاره من مصافحة الجاني الـمُـدان من طرف العدالة الإسبانية، في أروقة المؤتمر، أمام عدسات كامرات التلفزيون التونسي وغيره من وسائل الإعلام الدولية، قد حدث في وقت كان الأمل معقود على الشقيقة تونس للعمل على رأب الصدع بين الأطراف المعنية باسترجاع المغرب لصحرائه، والإسهام في حل المشكلات المفتعلة من طرف الجزائر، وبالتالي العمل على تعبيد الطريق بهدف تحقيق وحدة بلدان المغرب العربي لفائدة كافة أبنائها، من خليج قابس إلى المحيط الأطلسي. وكان حريا بالرئيس قيس سعيد، الأستاذ الجامعي المختص في القانون الدستوري، أن يقتدي بسلفه رؤساء الجمهورية التونسية الذين تعاقبوا على الحكم في بلاد “ثـورة الياسـمين” منذ سنة 1975، حيث التزموا، جميعا، بنوع من الحياد الإيجابي، ولــم يرضخــــوا قط إلى أماني حُـكــــــام قصــر الـمُـرادية للانضمام إلى دعواهم الواهية ومخططاتهم التوسعية.
هذا، واختصاراً في القول عن الصلات والوشائـج التي ربطت دومــــا المغرب وتونس، منذ أقدم العصور وغابرها، وحتى يوم الناس هذا، ودونـما الرجوع إلى أيام القرطاجيين، والرومان، وفترات حكم كل من المرابطين (446 ـــ 541ه / 1054 ـــ 1146م)، والموحدين (524 ـــ 668ه / 1130 ـــ 1269م)، والحفصيين (603 ــــ 747ه / 1207 ـــ 1346م)، والـمرينيين (642 ـــ 869ه / 1244 ـــ 1465م)، والـحُسينيين (1117 ـــ 1378ه / 1705 ـــ 1958م) …، يكفي أن نذكر هنا ارتسامات وشهادات مؤرخين، وعلماء، ومتأدبين مغاربيين، أُتيحت لهم فرصة الزيارة والإقامة في الديار التونسية أو المغربية، إما بصفتهم مبعوثين من طرف حكومتهم بالنسبة للتونسيين، أو أنهم أفراد في موكب الحجاج المغاربة، حيث اعتاد عدد منهم التوقف بتلمسان، أو الجزائر المدينة، أو بـجاية، أو تونس المدينة للقاء علماء وفقهاء هذه الحواضر، والاستماع إلى دروسهم، وخاصة من كان منهم يلقي دروسه ويُـحدث بـجامع الزيتونة. ومن بين هذه الشهادات المعبرة والمهمة، ما دونه كاتب مخزني من مدينة فاس، يُـدعى أبا العلاء إدريس، في مؤلفه الموسوم ب “الابتسام عن دولة ابن هشام، أو ديوان العبر في أخبار القرن الثالث عشر”، والذي قمنا بتحقيقه وإخراجه سنة 2021، ضمن منشورات المطبعة الملكية بالرباط. وقد اعتاد المؤلف خلال الحجات الثلاثة التي قام بها في سنوات 1225ه / 1810م، و1238ه / 1822 ــــ 1823م، و1266ه / 1849م، التوقف والإقامة بتونس المدينة على الخصوص، وحضور دروس عدد من علماء هذه الحاضرة المرموقين، وفي مقدمتهم : الشيخ أبـو إسحاق إبراهيم بن عبد القادر الرياحــــي المتوفى سنة 1266ه / 1849م، والذي يقـــول عنـــه وعـــن دروســـه، في سيــاق الحديث عن فقهائهــــا وعلمائهـــا، ما يلي :
“… ومنهم بتونس شيخ الجماعة أبو إسحاق الشيخ إبراهيم الرياحي، كان عالما، فيقها، أديبا، بارعا في الـمنقول والـمعقول. كنت أتردد لمجلسه، فكان يقرأ في درس واحد ثلاثة فنون، فيبتدىء بصحيح الـبُـخاري، ثم يقرأ بعده التفسير، ثم يقرأ بعده مختصر السعد. وكان يقرأ في جامع صاحب الطابع التي في رباط تونس، وهو مسجد بديع الـحُـسْـنِ والإتقان…”.
وعن علاقات هذا الشيـــخ بالمغرب، وبالسلطانيين مـــــــولاي سليمان بن محمد (1206 ـــ 1238ه / 1792 ـــ 1822م)، وخلفـــه ابن أخيـــــــه مولاي عبد الرحمن بن هشــــام (1238 ــــ 1276ه / 1822 ـــ 1859م)، على وجـــــه الخصوص، يضيف مؤلــــف “الابتسام …” ما يــــلي :
“ولهذا الشيخ (أي الرياحي) قصيدة مدح بها أبا الربيع أمير المومنين مولانا سليمان، وبعث بها. فلما وصلته، قُــرئـت عليه، أجازه عليها بـمأة ضبلون من الذهب. وقدم إلى فاس، والله أعلم، في حدود العشرين ومائتين وألف، وأخذ العهد عن الشيخ أحمد التجاني، رحمه الله، وأجازه عن إعمال الزاوية بتونس ؛ فكان في باب داره زاوية، يجتمع الناس فيها للذكر ؛ وكانوا بتونس يأخذون عنه أوراد الشيخ، وعلا شأنه بتونس، فصار من أعلامها الذين يُــرجع إليهم في المهمات…”
ومما يؤكد ما ذهب إليه من القول مؤلف “الابتسام …”، وقوع اختيار الباي حمودة بن علي باشا (1814 ــ 1824م) على الشيخ إبراهيم الرياحي سنة 1226ه / 1811 ـــ 1812م)، للقيام بمهمة لدى السلطان مولاي سليمان، حيث حَــل فعلا بالمغرب في نفس السنة وبحوزته، يقول أبو العلاء إدريس : “هدية وكتاب يتضمن طلب الإمداد بالـميرة، لحدوث المسغبة بالبلاد التونسية …”.
ويُـفيد المؤلف، كذلك، أن المبعوث التونسي قد اسْـتُـقْـبِـلَ ببالغ الحفاوة والترحيب، وكُـلّـلَت مأموريتُــه بالنجاح التام، حيث أُرْسِـلَـت كميات وافرة من الحبوب والقطنيات إلى تونس، قبل أن يُــغادر الموفد التونسي المغرب، راجعا إلى بلاده. كان هذا قبل قرنين ونيف، ولكن يا تُــرى، ما الذي صدر من المغرب وعاهله لفائدة تونس وشعبها في الأمس القريب ؟ إننا سوف نقتصر على الإدلاء بمثال واحد من عشرات الأمثلة التي تـجسد وقوف المغرب إلى جانب الأشقاء في تونس، وهو كاف بأن يعطينا فكرة عن الاهتمـــام الكبيــــر الذي ظــــــل يوليــــــه الـمـغرب إلى الشقيقة تونـــس وشؤونـــها. فقبل بضــــع سنــــوات، وبالضبط سنـــــة 2014، وقـــــع ما كان لا يُـــنْــتَــــظر من أحـــــد، حيــــن حَــلَّ الملك محمد السادس بتـونس التي لم تكن بها الأوضاع السياسية والاجتماعية مستقرة وهادئـــــــة، بعـــــد تعرضها لأعمال إرهابـــــيــــــة، حيث تـجـول جـــــلالتـــــه في شــــوارع العاصمـــة التونسية، وتحدث إلى أفراد من سكانها، دون بروتوكول أو حراسة مشددة، مظهراً للعالم أجمع أن الأوضاع عادية في بلاد “ثـورة الياسمين”، وأنه لا داعـــي إلى الخوف من زيارتها والإقامة بها، وهو مثل رائع في باب الأخـــــوة، والتعاضد، والتــــآزر بين الأشقــــاء المنتسبين إلى فضاء اجتماعي وثقافــي واحـــد.
ولكن، يا ترى، ما الذي حصل في وطن خير الدين التونسي، وأحمد ابن أبـي الضياف، ومحمد بـــيـرم الخامس، وفرحات حشاد، والحبيب بورقيبة، ومحمد الـمزالي، والباهي الأدغم، ومنجي سليم…، حتى يتمكن شخص مغمور، لا ذكر له في الوسط الجامعي، ولا في المحافل السياسية والنقابية في بلاده، من السطو على مقاليد الحكم في الشقيقة تونس، ويعبث بما بناه رواد الحركات الوطنية في المغرب العربي، متنكراً لكل القيم والمبادىء، ومتسببا في إحداث تصدع خطير بين بلدين شقيقين، جمعتهما عبر التاريخ أوثق العلاقات، وأمــتــن الروابط ؟ هذا، ولربـما يكمن جزء من الجواب على هذا التساؤل، في خلاء الساحة السياسية من نخبة وطنية قادرة على الإدلاء برأيها، وحريصة على ألاَّ يقع انزلاق، أو سقطة في تصرف الحكام. والمغرب، الواثق في عدالة قضيته، والقوي بوحدته الوطنية، حول جلالة الملك محمد السادس العظيم، لن يتأثــر أبـداً بدسائـس ومناورات الخصوم والأعداء، بل إنه ماض في شق طريقه نـحو غد أفضل، كره من كره وأحب من أحب.
الأستاذ مصطفى الشابــي
رئيس الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.