زلزال الحوز كشف للعالم تمتُّع المغرب بمناعة قوية، عزَّزها الزلزال ولم يُضعفها. أثبت المغرب صلابة روافعه وصِدقية قوَّته، الفاجعة كانت مُهولة، بآلاف الضحايا، موتى وجرحى وبدمار مُفزع للعمارة، في منطقة وَعرة وقاسية، من حيث تضاريسها ومن حيث تجاوِيفها الاجتماعية. مناعة المغرب تصدّت للفاجعة بنفير وطني عارم ومُنتج لقدرات خارقة على تجاوزها.
لم يتفوّق المغرب على آثار الكارثة، هكذا فجأة ومن فراغ. الكارثة امتحنت مناعته، من جهة معنوياته، مؤسساته وقيادته. والتي نمّاها وصلبها ومرنها في محن، تعثّرات وتحدّيات وتطلّعات ومسار تنموي، بإستراتيجية مُتبصّرة وواقعية، الوطنية خطّها الناظم لها، ومتوسلة بالجدية. لهذا توهّجت الوطنية في المغرب، قيادة وشعبا، منذ الدقائق الأولى التي تلت الزلزال. ويتواصل توهُّجها في التضامن الشعبي العارم، المُفعم بوطنية خلّاقة ومُذهلة وبفعالية فورية وسديدة التدخل المؤسساتي في التعاطي مع مخلفات وآثار الكارثة، بتوجيه وبإدارة ملكية، دقيقة، شاملة آنية وبعيدة المدى.
منذ التدخّلات الأولى للإنقاذ إلى إستراتيجية إعادة الإعمار، المحيطة بكُلِّيات وجزئيات حاجات النهوض التنموي، المتجدِّد، المتعدِّد الأبعاد والدقيق والمُحدَّد التوقيت والكلفة، للمنطقة وبعائداته على المغرب ككل.. 12 مليار دولار عنوان التّعبئة المالية المطلوبة لإعادة الإعمار. وهو رقمٌ يُترجم الثّقة في القدرات الهائلة للتعبئة الشعبية والمُؤسّسات الوطنية، وأيضا الثقة في إمكانات صداقات المغرب، وهي التي عبّرت عن ثقتها في قدراته وفي نجاعة تحمُّله للتحديات.
أبرز مظاهر الثقة في المغرب، وأهمها، نجدها في تأكيد انعقاد المؤتمر العالمي لصندوق النقد الدولي وللبنك العالمي في مراكش، وفي الموعد المقرر سلفا، يوم 9 أكتوبر المقبل. يُقال، في العادة، بأن “الرأسمال جبان” يهرب من المواقع – الهشة أو المُهدَّدة بالأقطار. أمام المغرب، المُعبِّران الرئيسيان عن الرأسمال العالمي، البنك والصندوق، اختارا الإقدام، للتضامُن مع المغرب. ولكن أساسا للثِّقة في مُؤَهِّلاته الراسخة، ولجدارته في التحكّم في انفعالات وتصدعات الزلزال بسرعة وبفعالية ودراية. وهي ثقةٌ لها أصل وسوابق في تقدير مكانة المغرب عالميا، وفي دوائر انتماءاته المحددة، سياسيا، اقتصاديا، سياحيا ورياضيا.
قرار تأكيد مؤتمر المؤسستين الماليتين العالميتين في مراكش، هو المصادقة على الصِّحة البِنْيوِيّة للمغرب، والتي لم تُقلِّل منها ارتجاجات الزلزال، الجيولوجية والعمرانية والاجتماعية، ويعني ذلك إسناد المؤسستين للمغرب في ورش إعادة إعمار منطقة الزلزال. وقد انطلق ذلك الإسناد بالقرض الهام، حوالي مليار ومئتي مليون دولار، مع فترة سماح، لخمس سنوات، قبل البدء في تسديده. والمضمَر في ذلك هو السّند السياسي في هذا الوضع الدولي الهائج والمستعرة مواقد نيرانه، في مساحات المشتركات الجغرافية للمغرب؛ أفريقيا، البحر المتوسط، المجال العربي.. لأن المغرب في تلك المساحات نسج تموْقعا فيها ثابتا، حصينا ومُنتجا. إنه مُدِرّ للربح المشترك في علاقاته ولزرع مُخصِّبات الاستقرار.
الورش الشاسع والعميق لإعادة إعمار مناطق الزلزال يَعد بأن يمثل مركز جذب لديناميكية تنموية تتمركز في الحوز (أو الأطلس الكبير عامة) وتدمج جواره الجغرافي وتمتد إلى المشروع التنموي الوطني، تنهل منه وتُغذِّيه. وسنكون أمام مغرب نوعي آخر، هو تطوير وتخصيب لمغرب ما قبل الزلزال. من أجل مغرب أقوى لما بعده. سنكون أمام المغرب الذي حول فاجعة الزلزال إلى طاقة دفع تنموية، بقوَّة الزخم الشعبي وسداد ونجاعة قيادته الوطنية.
من بوادر هذا الانخراط النّوعي في تطوير المسار التنموي، المتولد من الزلزال، أو المُتزامن معه، تلك الرسالة الملكية إلى رئيس الحكومة بخصوص إطلاق ورش تعديل مدونة الأسرة. يتعلق الأمر، كما قال العاهل المغربي الملك محمد السادس “بتمتيع المرأة المغربية بكل حقوقها”، والنظر في تفعيل مدونة الأسرة واختبارها مع التطورات المجتمعية ومع مكتسبات وتراكمات المسار التنموي المغربي. الورش مفتوح على مؤسسات وشخصيات وطنية، من شأن تدخلها أن يستجيب لطموحات تنموية ويتفاعل مع نقاشات مجتمعية متصلة بحشد كل طاقات المجتمع في مهام تعميق الإصلاحات التي انخرط فيها المغرب خلال العقدين الأخيرين. والمرأة هنا ليست مجرد فاعل، إنها الفاعل الأم، والطاقة الأساس التي ترفع المجتمع، تحمِله وتتحمَّله.
وتعديل مدونة الأسرة، في المبادرة الملكية هو عنوان على البدء في حقن المسار التنموي المغربي بديناميكية جديدة ونوعية وبعيدة المدى. إنه مدخل حيوي، زاخر وواعد بالامتداد إلى التمحيص وتقويم باقي الروافع التنموية لتمكينها وصيانة اندماجها مع المسار الإصلاحي التاريخي، الذي يذهب المغرب فيه بخطى العزم والثبات. ولذلك، ينجحُ المغرب في مواجهة تداعيات الرَّجَّات الجيولوجية، وبه أيضا وفيه يمنع نفسه من الرجات المجتمعية ويستخرج من التدافُعات السياسية ما ينفع الناس ويضيء في التاريخ.